الجسد بالغذاء والشراب والهواء بينما حياة النفس بالصلاة التي فيها الغذاء والنماء
للقلب المؤمن
الصلاة معراج المؤمن بها يسمو وبها يعلو
الصلاة غسل القلوب وشفاؤها، نعيم المؤمن ومكاسبه وسر الحياة، بها تسري الحياة
للنفوس فتنعشها وعافية الأبدان ووقايتها من كافة الأمراض
فالصلاة كمال الإنسانية وبهاؤها ولا حياة بلا صلاة فهي تنظِّف القلوب من
خبثهاوأدرانها، بها النعيم كله والشفاء النفسي والجسدي التامَّان الأكملان، والقوة
والبطولة والشجاعة التي لا تبارى، وبها تتم التضحيات النبيلة السامية وخوارق الأعمال
الإنسانية الكبرى، منها النور والحياة، والبهجة والبصيرة الكشَّافة لكلِّ نبل وسمو
متسامق متعال متشاهق
ولعلك تقول: هل تختلف الصلاة التي علَّمها الله تعالى رسولَه وأمره أن يعلِّمنا إياها عما
هو موجود الآن في بطون الكتب مما أثر عنه صلى الله عليه وسلم وما تواتر عنه
بخصوصها من أقوال وأفعال، منها الفرض والواجب ومنها السنن والمستحبَّات؟ وجواباً
على ذلك نقول:
لكل شيء صورة وحقيقة، وصورة الصلاة إنما هي موجودة في كتب الفقه والأحاديث
الشريفة، ويستطيع أن يقوم بهذه الصلاة الصورية وأن يمارسها البرّ والفاجر والمؤمن
والمنافق، وجميعهم يستطيع بحسب الصورة أن يقوم بعمل واحد لكن التباين والتفاوت
إنما يكون بحسب الحقائق فلكل امرئ في صلاته وجهة هو مولِّيها ولكلٍ قربٌ من خالقه
بحسب إيمانه وارتباطه بإمامه ولكل مُصَلٍّ فهم وإدراك، وشهود وعقل. وقد بين صلى
الله عليه وسلم أن من الناس من يكتب له من صلاته النصف ومنهم الربع ومنهم العشر
ومنهم من لا يستفيد من صلاته قليلاً ولا كثيراً... ويشير إلى ذلك صلى الله عليه وسلم:
«وليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها»
على هذا فالصلاة التي علَّمها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، والتي أمرنا بها الله
تعالى بواسطة هذا الرسول الكريم يجب أن تثمر في نفس المصلِّي عقلاً والعقل هو
روحها وحقيقتها ومقاس فائدة المصلي منها. ومن لم يعقل من صلاته شيئاً فلا صلاة له
ولم يؤدّها ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلاَّ السهر، ولا بدَّ لنا والحالة هذه من أن نفصِّل
في هذه النقطة بعض التفصيل لا سيَّما والصلاة هي عماد الدين ورأس الأمر كله
فنقول:
بما أن الصلاة هي صلة النفس بخالقها وارتباطها الوثيق بنور ربها، وبما أن العقل هو
روح الصلاة وثمرتها لذلك كان لزاماً علينا أن نعرف المراد من العقل، وماذا نعقل في
صلاتنا والأصول الواجب اتّباعها حتى نصل إلى العقل. ونبدأ ببيان المراد من العقل
فنقول:
المراد بالعقل هنا العقل النفسي وهو ما توعيه النفس وما تختزنه فيها من بعد أن شهدته
ورأته، أما ما يعقله الإنسان في هذه الصلاة التي نحن بصددها فيدور حول أمرين اثنين:
فهو يعقل طرفاً من الكمالات الإلهية عقلاً نفسياً من بعد أن آمن بها وعقلها فكرياً وإلى
جانب ذلك يعقل سرَّ التشريع الإلهي وبعض ما انطوت عليه الأوامر التي أنزلها الله تعالى
على رسوله في القرآن الكريم، إذ يكون عقل الكمالات الإلهية بمشاهدة المصلِّي طرفاً
من هذه الكمالات شهوداً نفسياً، إذ يرى العظمة الإلهية والعدل ويشهد الرأفة والرحمة
والعطف والحنان والفضل والإحسان وغير ذلك مما انطوت عليه الأسماء الإلهية وهنالك
تتمثَّل نفسه هذه الكمالات وتوعيها وتغدو مستقرة فيها. أما عقل الأوامر الإلهية فتكون
برؤية ما انطوت عليه من خير، فيرى المصلي مثلاً عندما يقرأ آيات الحجاب فائدة
الحجاب وما فيه من خير للمرأة ذاتها وذويها، والمجموعة البشرية كلِّها. وعندما يقرأ
الآيات التي تنهى عن الخمر والميسر يرى ما فيها من الأذى وما ينجم عن تعاطيها من
مضرَّات. وكذلك الأمر بالنسبة للميْتة وما ينشأ عن أكلها من أمراض وعاهات. ويرى
الفائدة من الصيام والصلاة والحج والزكاة، إلى غير ذلك من الأوامر التي يعقلها المصلِّي
بما يسمعه في صلاته من آيات القرآن. فهو لا يسمع بآية إلاَّ ويرى ما انطوت عليه من
معانٍ رؤية متناسبة مع مقدار ما هو فيه من وجهة إلى خالقه، وما هو عليه من صلة
وإقبال وذلك ما نعنيه بعقل الأوامر الإلهيّة.
وإذا كان العقل نتيجة لما يحصل عليه المصلي من شهود ورؤية نفسية فكيف تستطيع
هذه النفس أن تشاهد كمال الله وليس لها نور تشاهد به هذا الكمال؟ أم كيف تنكشف لها
المعاني وليس لها سراج منير يريها هذه المعاني ويبيِّن لها ما في الأوامر الإلهية من
خيرات! لذلك فهذا المصباح من لوازم الرؤية وهذا السراج المنير من لوازم
وضروريات من يريد أن يصلَ إلى العقل. وما ذاك المصباح والسراج إلا رسول الله صلى
الله عليه وسلم. قال تعالى مشيراً إلى ذلك بقوله:
( يا ايها النبى انا ارسلناك شاهدا ومبشرا ونذير وداعيا الى الله باذنه وسراج منيرا )
وما أمر الله تعالى رسوله بالاتجاه شطر المسجد الحرام إلا لتكون نفسه مقبلة عليه تعالى
من ذلك المكان لنستطيع نحن أن نولِّي وجهنا شطره حيثما كنَّا وفي أي مكان وُجدنا
فنجعله لنا في إقبالنا على الله إماماً وليكون لنفوسنا سراجاً مضيئاً، وذلك سر الأمر
الإلهي ولُبابه. وهكذا فالاتجاه إلى الكعبة الشريفة واستقبال هذه القبلة ركن من أركان
الصلاة. ومن لم يصلِّ جامعاً نفسه فيها مقبلاً على الله بصحبة هذا الإمام فلا يعقل من
صلاته شيئاً لأنه إنما يصلِّي وحيداً فريداً، وبذلك يطمع الشيطان فيه، ويهرع إليه فيملأ
قلبه بالهواجس والوساوس والخطرات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«عليكم بالجماعة وإيّاكم والفُرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد». صحيح الترمذي
وفي حديث آخر: «فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»
نحن في صلاتنا واستقبالنا الكعبة لا نعبد الكعبة ولا نتَّجه إلى الأحجار بل إنَّما نتجه من
ذلك المسجد الحرام إلى الله ونحن لا نعبد رسول الله، بل إنما نتَّخذه لنا في صلاتنا إماماً
وفي نفوسنا سراجاً منيراً، تدخل نفوسنا متى أرادت الإقبال على الله من ذلك المكان فتجد
إمامها به فتقتدي به وتقبل على الله بمعيَّته وهو لها نِعمَ الإمام وخير رفيق. وتستنير
بالنور الإلهي الساطع على نفسه صلى الله عليه وسلم بسبب إقباله على الله ويريها
بعض ما استكنَّ في أوامره تعالى من الأسرار والخيرات... وهذا يوضِّح لنا سرَّ قوله
تعالى:
( ان الله وملائكته يصلون على النبى يا ايها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما )