يبدو منزلنا هادئاً جداً.. ساكناً للغاية.. بدون صخب أختي الصغيرة، التي تحمل معها روح المكان وقلبه كلما غابت، وأظل أنا العقل المدبر للبيت، وكل خططه الحاضرة والمستقبلية، أتصور حال أمي عندما سنغادرها واحدة تلو الأخرى.. أتصور حال هذا المنزل وحال كل منّا وحيدة في منزل منفصل..
أتذكر تلك الكلمات عن مثلثنا المتماسك الأضلاع؛ فتصحو جدتي من نومها المتقطع وتقول لي "صباح الخير" للمرة السابعة، وما زال الفجر لم يؤذّن بعد.
كل نصف ساعة تصحو جدتي وتقول "صباح الخير" تسألني عن أختي التي تتصور أن خطوبتها بالأمس كانت زفافاً، وتطمئن عن حالها، وإذا كنا قد ذهبنا إلى صباحيتها أم لا؟؟
أحاول أن أُفهمها للمرة الثلاثين بعد المائة الرابعة أنها لم تتزوج، وأنها ذهبت إلى معسكر، وأن زواجها سيتم بعد سنة بإذن الله، وأحاول أن أفهمها بجميع الطرق؛ فتهز رأسها قائلة: لقد فهمت، فأسألها: إذن أين هي الآن؟! فتجيبني إنها ذهبت إلى معسكر وستعود بعد... سنة!! فأغرق في الضحك... يبدو أنني سأقضي أنا وأمي العشرين يوماً القادمة في محاولة تذكير جدتي بهذه القصة، كلما نامت نصف ساعة واستيقظت لتسأل عن أختي دلّوعتها وحفيدتها المحببة.
وستقضي أختي -عندما تعود- مدة لن تقل عن عشرين يوماً أُخَر، لتقنع جدتي أنها عائدة من معسكر، وليست غاضبة من بيت زوجها!!
يقولون عن الزهايمر "عتّة" تأكل العقل، ويبدو أنه مُعْدٍ للغاية؛ فالنسيان يطارد كل تفاصيل حياتي ولا يبقى سوى الفتات.. يحاول أصدقائي أن يذكّروني بأشياء ومواقف وأستطيع تذكّرها بصعوبة شديدة.
يأكل العقل نعم.. ولكنه لا يستطيع أن يأكل القلب، والدليل أنه رغم النسيان يبقى في ذاكرة جدتي لحظات الحب التي لا تُنسى بينها وبين جدي؛ تبقى فُسحتهما الأشهر إلى برج القاهرة، وصعودهما، وتلك" البسطة "التي أصرّ أن يُطعمها لها في مطعم البرج؛ رغم أنه "غالي أوي"؛ ولكنه ردّ "ما يغلاش عليكِ".
تبقى في ذاكرتها جولتهما في القلعة، ونزهاتهما بعد إحالة جدي على المعاش، تبقى تفاصيل حبها الصغيرة.. وغيرتها من جارتها التي تتذكر اسمها وضفيرتها جيداً !يبقى في ذاكرتها دفاعها عن بيتها في ذلك الحين، وذهابها إلى زوج جارتها التي شاغلت جدي...
وعرضها صورة لجدي مع زوجته لتقول له بحدة: "إنها لو كانت رجلاً لم تكن لتأوي امرأة مثل زوجته للحظة واحدة"، ومن يومها غادر الزوج مع المرأة اللعوب للأبد، وبقي جدي مع زوجته المخلصة دون أن يدرك سر انتقال جارته أبداً.
تبقى حكايات جدتي عن حياتها وحبها تقاوم عتة الزهايمر التي ابتلعت ذاكرتها الحاضرة.
الساعة الرابعة والنصف... جدتي مرة أخرى تقول لي "صباح الخير"، وتجلس خلفي لتسألني عن أحوال أختي في الزواج؟!!
وتؤكد أن أختي طيبة المعشر، وسيحبّها كل من يعرفها ويعاشرها، وتسألني عن البلد التي ذهبت إليها مع زوجها؟
فأبادر أنا بسؤالها:
هو الشاطر حسن أمه كان اسمها إيه؟؟!!
فتنظر لي بتعجّب!! وتجيب ببراءة: ما اعرفش!
فأخبرها: وهل يصحّ؟!! لماذا لم تسألي عن أمه وأبيه؟
فتجيبني: إن هذا منذ زمن بعيد، وإنها لم تتبين من أي "عيلة" هو، ولم تتعرف أصله وفصله.
فأعود لسؤالها: من الذي تتكلمين عنه؟ فتجيب: حسن فأسألها: من هو حسن؟ فتجيبني براحة وبديهية:
العرييييييييييس!!!!!!!!!!!!!!!