كان عليه الصلاة والسلام واسع العلم، عظيم الفهم، أفاض الله تعالى على يده العلوم النافعة الكثيرة، والمعارف العالية الوفيرة، فقال الله عز وجل: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا} (سورة النساء).
وفي الأثر: "ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، ولو اتخذه لعلمه"؛ فكيف بالنبي الكريم؟
والقيمة الوحيدة التي جعلها الله أساس الترجيح بين خلقه هي قيمة العلم، قال: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (سورة الزمر).
والشيء الوحيد الذي طُلب من النبي أن يدعو بالاستزادة منه هو العلم.. {وقل رب زدني علما} (سورة طه)
العلم هو القيمة الوحيدة المرجحة، والعلم هو الشيء الوحيد الذي طلب من النبي أن يزداد منه.
كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ في الليل يدعو؟ فبماذا كان يدعو؟ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال: "لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علمًا، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب".
لذلك حينما تعلم الحقيقة العظمى، حينما تصل إلى الله، حينما تتعرف إلى منهجه، حينما تكون على هذا المنهج فقد حزت النعمة المطلقة، والدليل: {اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} (سورة الفاتحة).
وحظك من العلم يتناسب مع مكانتك عند الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن نفسه: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا".
والعلم في الإسلام ليس هدفاً إذا لم يترجم لعمل فقد كان أصحاب النبي رضوان الله عليه يقرؤون الآيات العشر، ولا ينتقلون إلى غيرها حتى يطبقوها، وهذا الأعرابي قال للنبي عليه الصلاة والسلام: "عظني ولا تُطل"، فتلا عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره} (سورة الزلزلة).
فقال هذا الأعرابي: "قد كفيت يا رسول الله"؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "فقه الرجل".
وأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء آخر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علمًا الحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من حال أهل النار".
جاء الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء، فقال له: اقرأ، والنبي أميّ لا يقرأ، والأمية في حق النبي كمال؛ لأن الله سبحانه وتعالى ما سمح له أن يتزود بثقافات عصره؛ لأنه لو سمح له أن يتزود بثقافات عصره، ثم جاء الوحي لاختلط وحي السماء مع ثقافات الأرض، فإذا تكلم سأله أصحابه كل يوم، وكل ساعة: يا رسول الله هذا الكلام من أين؟ أمن وحي السماء، أم من ثقافة العصر؟ لذلك شاء الله عز وجل أن تكون حكمته في أن ينحي عن النبي كل ثقافة العصر، وأن يجعل كلامه وحياً من عند الله عز وجل: {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى} (سورة النجم).
لكي لا نتوهم أن موضوع الوحي موضوع خيال، أو منام، أو أنه عليه الصلاة والسلام كان نائمًا حالما، لا هذا ولا ذاك، بل إن جبريل عليه السلام عندما جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: "اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني -أي ضغط علي- حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال: اقرأ باسم ربك".
كأن سيدنا جبريل لا يطالب النبي أن يقرأ من ثقافات الأرض، أراده أن يقرأ باسم الله عز وجل الذي يعبده.
{اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم} (سورة العلق).
لذلك بعضهم يفسر قوله تعالى: {الرحمن، علم القرآن،خلق الإنسان،علمه البيان} (سورة الرحمن).
أي الرحمن علم النبي القرآن، علمه القرآن، علمه بيان معاني القرآن، علمه تلاوته نصاً وروحاً، علمه حكمه، علمه معارفه، علمه أسراره، علمه إشاراته، علمه خصائصه.
{سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله} (سورة الأعلى).
إن النبي لا ينسى إلا أن يشاء الله له أن ينسى، وإذا نسي النبي فلحكمة تشريعية.
قد يسأل أحدكم: ألم يفسر النبي القرآن؟ ا
الجواب: السنة المطهرة كلها تفسير للقرآن الكريم، لكن أحياناً هناك آيات كونية لم يرد فيها تفسير، ولحكمة بالغة بالغة كأن الله سبحانه وتعالى منع النبي عليه الصلاة والسلام من أن يفسر الآيات الكونية، لأنه لو فسرها تفسيراً مبسطاً يتناسب مع مفهوم العصر لأنكرنا نحن عليه هذا التفسير، ولو فسرها تفسيراً يتناسب مع التقدم العلمي والحقيقة المطلقة لأنكر أصحابه هذا التفسير، لذلك تركت هذه الآيات لكل عصر كي تفهم وفق مقياس العصر، وهذه الآيات الكونية التي لم يرد في تفسيرها نص، هي الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، هي السبق العلمي للقرآن الكريم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من أراد علم الأولين والآخرين فليتل القرآن"، أي أن أول وجه من وجوه علم النبي عليه الصلاة والسلام أنه فهم كلام الله فهماً دقيقاً دقيقاً؛ فهم كل شيء في كلام الله، وكما قلت قبل قليل: يعد فهم النبي لكلام الله أعلى فهم على الإطلاق، إذاً بيانه تفسير حقيقي لكلام الله، وسيرته تجسيد عملي لفهمه لكلام الله.
طبعاً يكفينا قول الله عز وجل: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} (سورة لقمان).
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} (سورة المائدة).
هذا وجه من أوجه العلم أما الوجه الآخر، من وجوه علم النبي عليه الصلاة والسلام الحكمة التي أنزلها الله عليه: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} (سورة النساء).
{واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفًا خبيرًا} (سورة الأحزاب).
والحكمة كما قال الإمام الشافعي: "هي السنة الظاهرة في أفعاله، وأقواله، وأحواله، وإقراره"، الحكمة سنة النبي قولاً، وفعلاً، وحالاً، وإقراراً.
قال العلماء: "سميت السنة النبوية حكمة لأن الحكمة تشتمل على سداد القول، وصواب العمل، هكذا علمنا سابقاً، الفرق بين الفلسفة والحكمة، قد تكون فيلسوفًا دارسًا، ولك نظريات في الفلسفة، لكنك لست حكيماً ما لم تطبق مبادئك، كلمة الحكمة تعني جانبًا نظريًا وجانبًا عمليًا، لذلك التعريف دقيق، الحكمة تشتمل على سداد القول وصواب العمل. وإيقاع ذلك في مواقعه، ووضعه في مواضعه، ولاشك أن أقواله عليه الصلاة والسلام، وأفعاله، وأحواله، وإقراره هي عين الحكمة".
روى ابن هشام وغيره "أن فضالة بن عمير هَمّ أن يقتل النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا من النبي قال له عليه الصلاة والسلام: أفضالة -أي يا فضالة- فقال: نعم يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟، قال: لا شيء، كنت أذكر الله؛ فضحك النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال له: استغفر الله -أي مما حدثت به نفسك وقولك لا شيء- ثم وضع رسول الله يده على صدر فضالة، فسكن قلبه.. أي ثبت فيه الإسلام؛ فكان فضالة يقول: " والله ما رفع النبي يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه".
وهذه من خصوصيات النبي، أن الله سبحانه وتعالى أطلعه على خبايا النفوس ـ طبعاً ليس دائماً ولكن أحياناً، وثمة أحوال ما أطلعه الله سبحانه عليها، فقد جاء وفد من إحدى القبائل، وطلب علماء وقراء، ولبى له النبي طلبه، وقتلوهم في الطريق، وكانوا سبعين قارئًا، معنى هذا أنه إذا عرف خبايا النفوس فليس بذاته، بل بإطلاع الله له.